فصل: مسألة فضل الفقه في الدين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة



.مسألة فضل الفقه في الدين:

في الفقه في الدين وسمعت مالكا يقول: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين».
قال محمد بن رشد: يشهد لصحة معنى هذا الحديث قول الله عز وجل: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269] جاء في التفسير أنه الفقه في دين الله، وهو تفسير يشهد بصحته قول النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين»، والفقه في الدين هو العلم به، وقد أثنى الله على العلماء بما أثنى ووعدهم بالدرجات العلى، فقال عز وجل: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28]، وقال: {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43]، وقال: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9]، وقال: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11]، وطلب العلم أفضل أعمال البر، روي عن النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ أنه قال: «ما أعمال البر كلها في الجهاد إلا كبصقة في بحر، وما أعمال البر كلها والجهاد في طلب العلم إلا كبصقة في بحر»، فنص في هذا الحديث على أن طلب العلم أفضل من الجهاد، ومعناه في الموضع الذي يكون فيه الجهاد فرضا على الكفاية إذا كان قد قيم به لأنه حينئذ يكون له قافلة، وأما القيام بفرض الجهاد والجهاد في الموضع الذي يتعين فيه الجهاد على الأعيان فلا شك أنه أفضل من طلب العلم، والله أعلم.
وظاهر الحديث أن طلب العلم أفضل من الصلاة. وما روي عن النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ أنه «سئل عن أفضل الأعمال فقال: الصلاة لأول ميقاتها»- معناه في الفرائض، وأما النوافل فطلب العلم أفضل منها على ظاهر الحديث المذكور، والله تعالى أعلم.
وقد سئل مالك: عن القوم يتذاكرون الفقه، القعود في ذلك أحب إليك أم الصلاة؟ فقال: بل الصلاة، وروي عنه أن العناية بالعلم أفضل، وليس ذلك عندي اختلافا من قوله، ومعناه: أن طلب العلم أفضل من الصلاة لمن ترجى إمامته، والصلاة أفضل من طلب العلم لمن لا ترجى إمامته إذا كان عنده منه ما يلزمه في خاصة نفسه من صفة وضوئه وصلاته وزكاته إن كان ممن تجب عليه الزكاة، وقال سحنون: يلزم أثقلهما عليه.

.مسألة تفسير إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا:

في تفسير: {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال: 29] وسئل مالك: عن تفسير: {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال: 29]، قال: مخرجا؛ لأن الله تبارك وتعالى يقول: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2].
قال محمد بن رشد: فسر مالك رَحِمَهُ اللَّهُ إحدى الآيتين بالأخرى، فقال: معنى فرقانا في الآية الواحدة معنى مخرجا في الآية الثانية، وقد قيل:
معنى فرقانا: نصر، وقيل: نجاة، وأحسن ما قيل في ذلك أن المعنى فيه فصلا بين الحق والباطل، حتى يعرفوا ذلك بقلوبهم ويهتدوا إليه؛ لأن الفرقان في لسان العرب مصدر من قولهم فرقت بين الشيء والشيء أفرق فرقا وفرقانا. وأما قول الله عز وجل: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2]، فمعناه: يجعل له من أمره مخرجا، وذلك أنه إذا اتقى الله فطلق كما أمره الله ولم يطلق ثلاثا كان له مخرجا بالارتجاع الذي يملكه في العدة وبالخطبة التي هي له مباح بعد العدة، وقد روي: أن الآية نزلت في رجل من أصحاب النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ يقال له عوف بن مالك الأشجعي كان له ابن أسره المشركون، فكان يأتي إلى النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ ليشكو إليه مكان ابنه وحالته التي هو بها أو حاجته، فكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأمره بالصبر، ويقول له: إن الله سيجعل له مخرجا، فلم يلبث بعد ذلك إلا يسيرا فانفلت من أيدي العدو فمر بأغنام لهم فاستاقها فجاء بها إلى أبيه وجاء معه بعثا قد أصابه من الغنم، فنزلت فيه: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2] {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 3]، فمن اتقى الله عز وجل وهو في شدة من أمره جعل الله له منه مخرجا على ما في سورة الطلاق، وإن كان في حيرة جعل الله له فرقانا، أي: فصلا يبين له به الحق من الباطل، والصواب وفيما تحير فيه على ما في سورة الأنفال.
فتأويل من تأول لكل آية منها معنى غير معنى الأخرى أولى ممن صرفهما إلى معنى واحد على ما ذهب إليه مالك، والله تعالى أعلم.

.مسألة القدوم على البلد الذي تقع فيه الأمراض:

17-
في القدوم على البلد الذي تقع فيه الأمراض فيكثر فيه الموت وسئل مالك: عن الأمراض تقع في بعض البلدان فيكثر فيهم الموت- وقد كان الرجل يريد الخروج إلى ذلك الموضع فلما بلغه كثرة ذلك المرض والموت كره أن يخرج إليه.
قال: ما أرى بأسا إن خرج أو أقام وذكر الحديث الذي جاء عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الطاعون، فقلت له: أفتراه يشبه ما جاء فيه الحديث من الطاعون؟ قال: نعم.
قال محمد بن رشد: الحديث الذي جاء في الطاعون قول عبد الرحمن بن عوف لعمر بن الخطاب إذ خرج إلى الشام، فلما بلغ سرغ، بلغه أن الوباء قد وقع فيه، فاستشار المهاجرين والأنصار في القدوم عن الوباء أو الرجوع عنه، فاختلفوا عليه في ذلك: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه»، فرجع عمر بن الخطاب، قيل: بحديث عبد الرحمن بن عوف، وقيل: بل إنما حدثه به بعد أن كان عزم على الرجوع بما أشار به عليه مشيخة الفتح إذ لم يختلفوا عليه في ذلك.
وقول النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه»- ليس بنهي تحريم، وإنما هو نهي أدب وإرشاد من ناحية قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا يحل الممرض على المصح، وليحل المصح حيث شاء»، لئلا يقع بنفسه إن قدم عليه فأصابه فيه قدر أنه لو لم يقدم عليه لنجا منه، ولا مجير لأحد عن القدر، فلهذا قال مالك: ما أرى بأسا إن خرج أو أقام، أي: لا حرج عليه إن قدم على البلد في مخالفة النهي، إذ ليس بنهي تحريم، بل له الأجر إن شاء الله إذا قدم عليه موقنا بأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، فهو يؤجر إذا قدم عليه لهذا الوجه، ويؤجر إذا لم يقدم عليه لاتباع نهي النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ عن ذلك، فهذا وجه تخيير مالك إياه في ذلك.
وكذلك قول النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ: «وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه»- ليس بنهي تحريم وإنما هو أمر بالمقام الذي هو أفضل من أجل الاستسلام للقدر، فالمقام أفضل بوجهين: أحدهما: اتباع الحديث، والثاني: الاستسلام للقدر، والخروج جائز لا حرج فيه إن شاء الله إلا أنه مكروه لمخالفة الحديث.
وقد أمر به عمرو بن العاص فروي عن الطاعة، فقال: تفرقوا عنه فإنما هو بمنزلة نار، فقام معاذ بن جبل، فقال: لقد كنت فينا وأنت أضل من حمار أهلك، سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «هو رحمة لهذه الأمة» اللهم فاذكر معاذا فيمن تذكره في هذه الرحمة، فمات في طاعون عمواس بالأردن من الشام سنة ثماني عشرة، وهو ابن ثمان وثلاثين سنة، وروي عن شرحبيل بن حسنة أن عمرو بن العاص قال وقد وقع الطاعون بالشام: إنه رجس فتفرقوا عنه، فقال شرحبيل: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «إنها رحمة ربكم ودعوة نبيكم وموت الصالحين قبلكم فلا تفرقوا عنه». قال ابن عبد البر في الاستذكار أظن قوله ودعوة نبيكم قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللهم فاجعل فناء أمتي بالطعن والطاعون، قالت عائشة: يا رسول الله، الطعن عرفناه، فما الطاعون؟
قال: غدة كغدة البعير تخرج في المراق والآباط»
.
ووجه ما ذهب إليه عمرو بن العاص من أن الخروج عن البلد الذي يقع فيه الطاعون أولى من المقام فيه، هو مخافة الفتنة في ذلك بأن يصيبه قدر في مقامه فيقول القائل لو خرج لنجا، فقد روي عن ابن مسعود أنه قال: الطاعون فتنة على المقيم وعلى الفار، أما الفار فيقول: فررت فنجوت، وأما المقيم فيقول: أقمت فهلكت، وكذبا جميعا، فر من لم يجئ أجله، وأقام فمات من جاء أجله، وقد قال المدائني: يقال: إنه قل ما فر أحد من الطاعون فسلم من الموت.
فيتحصل على هذا في الأفضل من القدوم على الوباء والخروج عنه أو ترك ذلك بعد الإجماع على أنه لا إثم ولا حرج في شيء من ذلك ثلاثة أقوال للسلف:
أحدها: أن الأفضل أن يقدم عليه وأن لا يخرج عنه، وهو مذهب من أشار من المهاجرين والأنصار على عمر بن الخطاب أن يقدم عليه ولا يرجع عن وجهته؛ لأن ترك القدوم عليه أحب من الرجوع عنه، فإذا كره الرجوع عنه فأحرى أن يكره الخروج عنه.
والثاني: أن الأفضل أن لا يقدم عليه وأن يخرج، وهو الذي ذهب إليه عمرو بن العاص؛ لأنه إذا كره المقام فيه فأحرى أن يكره القدوم عليه.
والقول الثالث: أن الأفضل ألا يقدم عليه وألا يخرج عنه للنهي الوارد في ذلك عن النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ رواية عبد الرحمن بن عوف، وهذا القول أصح الأقوال؛ لأن السنة حجة على القولين الآخرين، وبالله التوفيق.

.مسألة نتف الشيب وقرضه:

في نتف الشيب وقرضه وسئل مالك: عن نتف الشيب؟ فقال: ما أعلم حراما، وتركه أحب إلي من نتفه، قال ابن القاسم: ولا أحب نتفه، قيل له: لو قرضه؟ فقال: أكره أن يقرضه من أصله، وهو عندي يشبه النتف.
قال محمد بن رشد: الكراهية في ذلك ما جاء من أن إبراهيم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أول الناس ضيف الضيف، وأول الناس اختتن، وأول الناس قص شاربه، وأول الناس رأى الشيب، فقال: يا رب ما هذا؟ فقال الله تبارك وتعالى: وقارا يا إبراهيم، فقال: رب زدني وقارا، فما دعا إبراهيم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ به الزيادة فيه لا ينبغي لأحد أن ينقصه من نفسه، وبالله التوفيق.

.مسألة ماء غير متملك يجري على قوم إلى قوم دونهم:

في سيل مهزور ومذينب وسئل مالك: عن سيل مهزور ومذينب حين قضى فيهما رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أكان فيهما يومئذ أصول نخل؟ فقال: نعم.
قال محمد بن رشد: مهزور ومذينب واديان معروفان من أودية المدينة يسيلان بالمطر يتنافس فيهما أهل المدينة فقضى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يمسك الأعلى إلى الكعبين ثم يرسل على الأسفل، وهذا هو الحكم في كل ماء غير متملك يجري على قوم إلى قوم دونهم أن من دخل الماء أرضه أولا فهو أحق بالسقي به حتى يبلغ الماء في أرضه إلى الكعبين.
ثم اختلف الناس إذا بلغ الماء إلى الكعبين هل يرسل جميع الماء إلى الأسفل أو لا يرسل إليه إلا ما زاد على الكعبين؟ وقال ابن القاسم: بل يرسل جميع الماء ولا يحبس منه شيئا، والأول أظهر، وروى زياد عن مالك: أن معنى الحديث أن يجري الأول الذي هو أقرب إلى الماء من الماء في ساقيته إلى حائطه بقدر ما يكون الماء في الساقية إلى حد كعبيه حتى يروى حائطه بقدر ما يكون الماء في الساقية، ثم يفعل الذي يليه كذلك ما بقي من الماء شيء، قال: وهذا السنة فيهما وفيما يشبههما مما لا حق فيه لأحد بعينه أن الأول أحق بالتبدئة ثم الذي يليه إلى آخرهم رجلا، وبالله التوفيق.

.مسألة تغيير الشيب:

في تغيير الشيب قال: وسمعته يذكر، قال مالك: كان عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وأبي بن كعب وسعيد بن المسيب والسائب بن زيد لا يغيرون الشيب.
قال محمد بن رشد: أما صبغ الشعر وتغيير الشيب بالحناء والكتم والصفرة فلا اختلاف بين أهل العلم في أن ذلك جائز، وإنما اختلفوا هل الصبغ بذلك أحسن أو ترك الصبغ جملة أحسن، واختلف في ذلك قول مالك بدليل ما له في الموطأ أن الصبغ بذلك أحسن، ودليل ما تقدم من قوله قبل هذا في رسم حلف ألا يبيع سلعة سماها أن ترك الصبغ بذلك كله أحسن، وقد مضى الكلام على هذا هناك مستوفى فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.

.مسألة قضاء الرجل الرجل الذهب في المسجد:

في قضاء الرجل الرجل الذهب في المسجد وسئل مالك: عن الرجل يقضي الرجل ذهبا في المسجد، فقال: لا أرى به بأسا، وأما ما كان على وجه التجارة والصرف فلا أحبه.
قال محمد بن رشد: قد مضى هذا متكررا في هذا الرسم من هذا السماع من كتاب السلطان، وكره في رسم شك في طوافه منه في كتاب ذكر الحق في المسجد إلا أن يكون شيئا خفيفا لا يطول، وهذا كله بين؛ لأن المساجد إنما وضعت لذكر الله والصلاة، قال الله عز وجل: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} [النور: 36] {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [النور: 37]، فواجب أن ترفع وتنزه عن أن تتخذ لغير ما وضعت له، وقد اتخذ عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رحبة بناحية المسجد تسمى البطيحاء، فقال: من كان يريد أن يلغط أو ينشد شعرا أو يرفع صوته فليخرج إلى هذه الرحبة، وكان عطاء إذا مر به بعض من يبيع في المسجد دعاه فسأله: ما معه وما يريد؟ فإذا أخبره أنه يريد أن يبيعه، قال: عليك بسوق الدنيا فإنما هذا سوق الآخرة، وبالله التوفيق.

.مسألة ما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول الإسلام من قلة السعة:

فيما كان عليه أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أول الإسلام من قلة السعة وسمعت مالكا يقول: كان عبد الله بن عمر يقول: ما شبعنا من الثمر حتى فتحت خيبر.
قال محمد بن رشد: قد مضى معنى هذا في رسم نذر سنة وتكلمنا هناك على ما يتعلق به من التفضيل بين الفقر والغنى، فلا وجه لإعادته، وبالله التوفيق.

.مسألة ظهور أثر السجود بين عيني الرجل:

في كراهية ظهور أثر السجود بين عيني الرجل وسمعته يقول: بلغني أن سعد بن أبي وقاص رأى رجلا بين عينيه سجدة، فقال: منذ كم أسلمت، فذكر الرجل أمدا كأنه تقربه، فقال سعد: أسلمت منذ كذا وكذا وما بين عيني شيء.
قال محمد بن رشد: كره له سعد رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أن يشد جبهته بالأرض حتى يؤثر فيها السجود فيبدو ذلك للناس؛ إذ ليس ذلك هو المعنى المراد بقول الله عز وجل: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح: 29]، وإنما هو ما يعتريهم من الصفرة والنحول بكثرة العبادة وسهر الليل، وقيل: إن ذلك في الآخرة لا في الدنيا، ولعله اتهمه أن يكون قصد إلى ذلك ليعرف به، فلذلك وبخه بما قرره عليه في الرواية، والله أعلم.
وقد روي أن عمر بن عبد العزيز استعمل عروة بن عياض على مكة فاستعداه عليه رجل ذكر أنه سجنه في حق فلم يخرجه منه حتى باع ماله منه بثلاثة آلاف، وقد كان أعطاه به ستة آلاف فأبى أن يبيعه منه، واستحلفه بالطلاق ألا يخاصمه في ذلك أبدا، فنظر عمر إلى عروة ونكت بالخيزران بين عينيه في سجدته، ثم قال: هذه غرتني منك، لسجدته، ولولا أني أخاف أن تكون سنة من بعدي لأمرت بموضع السجود فغور، ثم قال للرجل: اذهب فقد رددت عليه مالك ولا حنث عليك، وقد مضى هذا في رسم الصلاة الثاني من سماع أشهب من كتاب الصلاة لتكون الحكاية هناك، وبالله التوفيق.

.مسألة شكل المصاحف:

في شكل المصاحف وسئل مالك: عن شكل المصاحف أتشكل؟ فقال: أما أمهات المصاحف فإني أكره ذلك، وأما ما يشكل للتعليم فلا أرى بذلك بأسا.
قال محمد بن رشد: المعنى في كراهيته لشكل أمهات المصاحف هو أن الشكل مما قد اختلف القراء في كثير منه، إذ لم يجئ مجيئا متواترا فلا يحصل العلم بأي الشكلين أنزل، وقد يختلف المعنى باختلافه، فكره أن يثبت في أمهات المصاحف ما فيه اختلاف، وبالله التوفيق.

.مسألة يأمر للسائل بشيء فيجده قد ذهب:

في الذي يأمر للسائل بشيء فيجده قد ذهب وسئل مالك: عن السائل يقف بالباب فيأمر له بدرهم فيجده قد انصرف، أترى أن يسترجعه؟ فقال: لا، ولكن يتصدق به، قال له: فالكسوة؟ قال: كذلك يتصدق بها.
قال محمد بن رشد: زاد في هذه المسألة في هذا الرسم من كتاب العارية، وما رآه عليه بواجب، ووصل ابن أبي زيد بها في النوادر، وقال: ومن خرج إلى مسكين بشيء فلم يقبله فليعطه غيره، وهو أشد من الأول، وليس بينهما فرق بين، والمعنى الذي ذهب إليه ابن أبي زيد في الفرق بينهما والله أعلم هو أنه لما وجده فأبى أن يقبلها وقد كان له أن يقبلها فردها أشبه عنده ردها إليه بعد قبوله إياها، ولعله إنما ردها إليه ليعطيها لغيره، مثل أن يقول له أنا لا حاجة لي بها فادفعها لغيري، فيكون ذلك قبولا منه لها، ويكون بذلك راجعا في صدقته، وكذلك إذا سأله قريبه أو أجنبي أن يعطيه شيئا فيعده بذلك فيأتي بما وعده به فلا تجده يستحب له أن يعطيه لغيره.
فآكدها في الاستحباب الذي يخرج بالشيء إلى السائل فيجده فلا يقبل، ويليها إذا لم يجده، ويليها الرجل الأجنبي يعده بالشيء فلا يجده، ويليها القريب يعده بالشيء فلا يجده، وهو أخفها كلها من أجل أنه إنما أراد عينه لقربه منه، وبالله تعالى التوفيق.

.مسألة مقاتلة العصبية:

في مقاتلة العصبية وسئل مالك: عن العصبية مثل ما كان في أهل الشام، قال: أرى للإمام أن يتدارك ذلك وأن يزجرهم، فإن طاعوا وإلا جوهدوا فيه، يعني أن يقاتلوا.
قال محمد بن رشد: هذا نص ما في كتاب الجهاد من المدونة، والأصل في ذلك قول الله عز وجل: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9]، أي: حتى ترجع إلى الحق الذي أمر الله به، وبالله التوفيق.

.مسألة حد المنجم:

في المنجم وسئل مالك: عن الذي ينظر في النجوم فيقول الشمس تكسف غدا والرجل يقدم غدا، وما أشبه هذا.
قال: أرى أن يزجر عن ذلك، فإن لم يفعل أدب في ذلك، ثم قال: وإني لأرى هؤلاء الذين يعالجون المجانين ويزعمون أنهم يعالجونهم بالقرآن وقد كذبوا ليس كما قالوا، ولو كانوا يعلمون ذلك لعلمته الأنبياء، قد صنع لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سحر فلم يعرفه حتى أخبرته الشاة. وإني لأرى هذا ينظر في الغيب، وإنها عندي لمن حبائل الشيطان.
قال محمد بن رشد: ليس قول الرجل: الشمس تكسف غدا والقمر يكسف ليلة كذا- من جهة النظر في النجوم وعلم الحساب، بمنزلة قوله من هذا الوجه: فلان يقدم غدا، في جميع الوجوه؛ لأن الشمس والقمر مسخران لله تعالى في السماء يجريان في أفلاكهما من برج إلى برج على ترتيب وحساب وقدر لا يتعديانه، قال الله عز وجل: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [يس: 39] وقال: {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} [الرحمن: 5] وقال: {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 40].
فالقمر سريع الذهاب يقطع جميع بروج السماء في شهر واحد ولا تقطعها الشمس إلا في اثني عشر شهرا، فهو يدرك الشمس في آخر كل شهر ويصير بإزائها من البروج الذي هي فيه، ثم يخلفها فإذا بعد وكلما زاد بعده منها زاد ضوءه إلى أن ينتهي في البعد ليلة أربعة عشر فتكمل استدارته وضوءه لمقابلة الشمس، ثم يأخذ في القرب منها، فلا يزال ضوءه ينقص إلى أن يدرك الشمس فيصير بإزائها على ما أحكمه خالق الليل والنهار، لا إله إلا هو.
فإذا قدر الله عز وجل على ما أحكمه من أمره وقدره من منازله في سيره أن يكون بإزاء الشمس في النهار فيما بين الأبصار وبين الشمس ستر جرمه عنا ضوء الشمس كله إن كان مقابلها أو بعضه إن كان منحرفا عنها، فكان ذلك هو الكسوف للشمس، آية من آيات الله عز وجل يخوف بها عباده، كما قال عز وجل: {وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلا تَخْوِيفًا} [الإسراء: 59]، ولذلك أمر النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ بالدعاء عند ذلك، وسن له صلاة الكسوف.
فليس في معرفة وقت كون الكسوف بما ذكرناه من جهة النجوم وطريق الحساب ادعاء علم غيب ولا ضلالة وكفر على وجه من الوجوه، لكنه يكره الاشتغال به؛ لأنه مما لا يعني، وقد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه».
وفي الإنذار به قبل أن يكون ضرر في الدين؛ لأن من سمعه من الجهال يظن أن ذلك من علم الغيب، وأن المنجمين يدركون علم الغيب من ناحية النظر في النجوم، فوجب أن يزجر عن ذلك قائله ويؤدب عليه كما قال؛ لأن ذلك من حبائل الشيطان، وقد روي: أن رجلا قال بالإسكندرية عند عمرو بن العاص: زعم حسطال هذه المدينة أنه يكسف بالقمر الليلة أو أن القمر ينكسف الليلة، فقال رجل: كذبوا هذا هو، علموا ما في الأرض فما علمهم بما في السماء؟ فقال عمرو بن العاص: إنما الغيب خمسة: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان: 34] وما سوى ذلك يعلمه قوم ويجهله آخرون.
وأما قوله فلان يقدم غدا فهو من التخرص في علم الغيوب والقضاء بالنجوم.
وقد اختلف في المنجم يقضي بتنجيمه، فيقول: إنه يعلم متى يقدم فلان، ويعلم وقت نزول الأمطار وما في الأرحام وما يستسر به الناس من الأخبار وما يحدث من الفتن والأهوال وما أشبه ذلك من المغيبات، فقيل: إن ذلك كفر يجب به القتل دون استتابة؛ لقول الله عز وجل: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُورًا} [الفرقان: 50]، ولقول النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ: «قال الله عز وجل: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر بي، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا، فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب»، وقيل: إنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل، روي ذلك عن أشهب، وقيل: إنه يزجر عن ذلك ويؤدب عليه، وهو قوله في هذه الرواية، والذي أقول به: إن هذا ليس باختلاف قول في موضع واحد، وإنما هو اختلاف في الأحكام بحسب اختلاف الأحوال، فإذا كان المنجم يزعم أن النجوم واختلافها في الطلوع والغروب هي الفاعلة لذلك كله وكان مستسرا بذلك فحضرته البينة قتل بلا استتابة؛ لأنه كافر زنديق، وإن كان معلنا بذلك غير مستسر به يظهره ويحاج عليه استتيب، فإن تاب وإلا قتل كالمرتد سواء، وإن كان مؤمنا بالله عز وجل مقرا بأن النجوم واختلافها في الطلوع والغروب لا تأثير لها في شيء مما يحدث في العالم، وأن الله هو الفاعل لذلك كله إلا أنه جعلها أدلة على ما يفعله، فهذا يزجر عن اعتقاده ويؤدب عليه أبدا حتى يكف عنه ويرجع عن اعتقاده ويتوب عنه؛ لأن ذلك بدعة يجرح بها، تسقط إمامته وشهادته على ما قاله سحنون في نوازله من كتاب الشهادات.
ولا يحل للمسلم أن يصدقه في شيء مما يقول، وأنى يصح أن يجتمع في قلب مسلم تصديقه مع قول الله عز وجل: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلا اللَّهُ} [النمل: 65] وقوله: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا} [الجن: 26] {إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن: 27] وقوله: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان: 34]، وروي عن النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ أنه قال: «من صدق كاهنا أو منجما أو عرافا فقد كفر بما أنزل الله على قلب محمد»، ويمكن أن يصادف في بعض الجمل وذلك من حبائل الشيطان، فلا ينبغي أن يغتر أحد بذلك ويجعله على صدقه دليلا فيما يقول، كما لا ينبغي أن يصدق المعالجون الذين يعالجون المجانين فيما يزعمون من أنهم إنما يعالجون بالقرآن، فلا يعلم الأمور الغائبة على وجوهها وتفاصيلها إلا علام الغيوب أو من أطلع عليها علام الغيوب من الأنبياء ليكون ذلك دليلا على صحة نبوته، قال الله عز وجل في كتابه حاكيا عن عيسى ابن مريم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 49]، فادعاء معرفة ذلك والإخبار به على الوجه الذي يعرف ذلك الأنبياء ويخبر به تكذيبا لدلالتهم.
وفي دون هذا كفاية لمن شرح الله صدره للإسلام وهداه ولم يرد إضلاله وإغواءه.
والذي ينبغي أن يعتقد فيما يخبرون به من الجمل فيصيبون مثل ما روي عن هرقل: أنه أخبر أنه نظر في النجوم فرأى ملك الختان قد ظهر، أن ذلك إنما هو على معنى التجربة التي قد تصدق في الغالب من نحو قول النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إذا نشأت بحرية ثم تشاءمت فتلك عين الغديقة»، وبالله التوفيق.